الأحد، 3 يناير 2016

الشهيد الفريق عبد المنعم الطاهر


الشهيد الفريق عبد المنعم الطاهر 


مدرسة الجندية السودانية
لكل جيش في العالم نظامه ومنهجه وقانونه ولكنه فى السودان متفرد عظيم بنيانه عظيمة لبناته وعندما نجول مع الشهيد الفريق عبد المنعم نشهد منهجاً تربوياً وفلسفياً وعقائدياً يبنى امة من الجنود قوامها العلم والتجربة وسامي الغايات ، امة مؤهلة عقلاً جسماً وروحاً للبذل والعطاء ..
1/ مقومات الإدارة                
2/ مقومات القوة
3/ مقومات القيادة
4/ صفات الطاعة والتجرد والتفاني
5/ الأمانة والصدق والصراحة والجسارة
منذ ان دخل الشهيد مدرسة الكلية الحربية بدأت صياغته تتآلف مع الجسم المنحول رياضة وعبادة وسرى ناموس جديد يشابك العصب واللحم والدم ، تخلق قائداً صغيراً تجلت فيه الموهبة والقدرة والمهارة .. وأنفاس التراب والسواقي تعتق أصوله وفروعه ... 

 

مضى ثلثه الأول شباباً وحيداً وفروسية ، يمتطى الخيل والنشاب يجعل من كتلة الموز هدفاً لضبط نشابه البسيط حتى تميز بين مجموعته بدقة التصويب لا تهزه أصوات الرصاص ولا تلهث أنفاسه ولا ترتعش أنامله فتنطلق قذائفه وخيله رميات مسددات بأسباب من الرحمن تقتل الخوف والمرض والجهل والغازي والعدو ..
ساريتك عالية لا تطولها نبال الغاشم ...
وظهرك لا ينحني لرجل ..
لم يقعده الظل والخدر والمطر ...
لم تقعده السنين والملل والرتب العليا ...
عاش نسراً يطوف .. يحلق
عينه ترقب ، ومخلبه حاد طويل يستأصل مواطن الداء والأعداء والكبد والقلب ..
القوات المسلحة كان صمامها رجال مثل الشهيد عبد المنعم كفكفوا أياديهم وصدورهم حول الراية فى فترة عصيبة ، لتبقى ويبقى شرف السودان وشرف جيش السودان ، عندما كان الشهيد قائداً لمعسكر فنجاك فى العام 1986م ، جعل جنده فى عينيه وجعلهم اسرته فاعتصموا بحبل متين وكان جل جنده من أهلنا بالجنوب ( الذين تم استيعابهم بالجيش بعد اتفاقية اديس ابابا قائداً اخرج الجندية السودانية ليقود كل أهل السودان بمختلف أعراقهم وأديانهم وسحناتهم .. وكان الجنود وقتها يقاتلون فى صمت والقيادة السياسية فى شغل ولهو وتسابق حول الكرسي ، فى تلك السنوات والمحنة التى كادت ان تعصف بالقوات المسلحة ، وقف رجال القوات المسلحة يزودون عن الراية لايخزلنهم إهمال الحكومة المركزية ولا تصريحات الشماتة والاستهزاءات واعلام المضللين الذي كان يلقب بالمناضل ..
كان عبد المنعم يعلم ويرى أفعال الخارجين ، قتلهم النساء والأطفال والشيوخ وتدميرهم للقرى والمدن والقنوات والمصانع والمساجد والمدارس .. وقضى العام ونصف العام بفنجاك لا تهدأ خيله وقذائف الهاون تترامى على أطراف خنادقه وتنفجر عند متاريسه ، لم يستطع خارج واحد استلام فنجاك منه ...
هكذا يحدثنا عن الشهيد ابن عمه المقدم عبد الرحمن عثمان عبد الرحمن لقد مررت على الشهيد بفنجاك فوجدت عساكره ( المستوعبين ) ملتفين حول قائدهم متكاتفين فازدادت ثقتي فيه وفى قدرته القيادية والقتالية ، وعجبت لضباط القوات المسلحة بسرية واحدة يثبت هذا الموقه . قذف بالهاون وهوجم بين الحين والاخر .
تخرج الشهيد البطل في العام 1976م ، وتوجه صوب الغرب فى حرس الحدود كتيبة زالنجى ، ثم عمل بالابيض ( الهجانة ) وعمل بالكرمك وجنوب كردفان ثم عقيق وطوكر وكسلا وبورتسودان ، ومناطق النيل الأزرق واخيراً جبل أولياء التي توجه منها ليستشهد في توريت 2002م .
لتأتى كل جبل أولياء محزومة بعصا اللواء هاشم تشارك في المكارم والوفاء وتسابق ، بل ان جبل أولياء جعلت أسرة الشهيد هي الضيف تولت عنها كل شيء ، وهذا ارث قديم في القوات المسلحة التي فاق عمرها الآن الخمسين عاماً ارث يؤسس لأفضل قيمة إنسانية .. الوفاء .. من ابر البر أن تصل أهل وأحباب الأخ والصديق والزميل بعد موته ..
ان أهل جبل أولياء قد أدركوا مقام الإحسان وتبركوا في مقام الشهادة والبسالة .. وزانوا طوق الجيش السوداني بشارة الوفاء البيضاء ..
نجم الدين الأخ الشقيق الوحيد للشهيد من بين ست شقيقات منهن بهجة وأميرة وإحسان وزينب وإقبال وآمال ..
دخل نجم الدين فقرأ علينا السلام ..
صوت الشهيد ذاته ..
نظراته ، عينيه ..
تلقائيته بساطته التفاتته ، حنوه
رن في اذنى في قلبي . انه من ذات النبع
قمرين من الطاهر عبد الرحمن محمد على قشق
توارى الأول بين السحاب صاعداً إلى السماء وبقى الاخر على العهد مع الوالدة آمنة الحاج المبارك . بدأ حديثه ليقول الناس بتعرف الشهيد أكثر مننا !!
وفى أيام الفقد الأول تلقيت المكالمات من كل مكان من داخل السودان وخارجه عن آخر معارك نسمع .. نحكى
قائد المنطقة يصول ويجول بين العساكر ...
هذا الرجل لا يمكن اسره ...
تحرك الأخ نجم الدين الطاهر قاصداً جوبا ، يسأل عن يوسف وأخباره ..
قال وجدت المجاهد حاج ماجد وافادنى :
(آخر شيء كنت مع الشهيد وطلب منى ان احضر مدفع رشاش من الخيمة وما ان ركبت قاصداً الخيمة حتى فصلت بيني وبين الشهيد ثلاث دبابات للعدو .. فأصبحت في قطاع وهو في اخر .. وسرت بعد ان انفصلت من القوة لثلاثة أيام حتى وصلت جوبا ) ، جاء نجم الدين يرقب بصبر الأخبار ، يسأل الركبان يتحسس روح يوسف ...
جلس مع القائد وطيار برتبة الملازم .. كان يحكى عن أخباره
اخر مكالمة لي مع الشهيد عبد المنعم كان يقول :
اختلط الحابل بالنابل
أملا يمينك واضرب يمينك
الجهة اليمين ماتفرز
وتمكنت بعده بتدمير ثلاث دبابات للعدو .. ورأيت ان عساكر العدو قد اخترقت المعسكر وبدأت في النهب وانقطع عندها الاتصال مع الشهيد ..
يرمى ويوجه في اخر اللحظات وفى أصعب مراحل القتال يسدد رمية بثبات .. يقود معركته ارضاً وجواً انه ميدانه انه ملكه وملكه ..
وقفوا على مسار نقعة وحرابته وحرانه وعركه وعرينه ، استبسل حتى شهد المكان بأحداث معركة قوية داوية ، الأشياء والأغراض المبعثرة رسمت المشهد وكتبت بأدواتها من حجارة ورمل وطين وأغصان . آثار الأسد مطبوعة على صفحة الأرض ..
فورانه .. قتاله .. انها معالم حياة الجندي السوداني والضابط السوداني انها معالم قتال المسلم وثبات المؤمن وجسارة القادة .. انها حديث الأدغال والأبطال .. انها توقيع العراك – والبطل والنزال ..
نفس تقاتل دون عرضها ودون أرضها ودون اسمها ودون رايتها .. نفس تحب الموت والفداء .. ادركتنا صلاة المغرب ، فوقفنا شهوداً لها .. وخرج الدعاء والتأمين من الجميع خالصاً طيباً ، وليس لا ..
انه دعاء وعهد .. انه دعاء ذرية طيبة صالحة ، تبتغى أجرا وعملاً صالحاً متواصلاً للشهيد .
انتقل الشهيد ولم يكمل الخمسين عاماً من عمره ، ينزل احمد والخاتم في يده ، يهزه يعصره يذكره ويعصمه ومعصمه يخط الدرس – والعلوم بذات السبق تدرك المعالي ..
بذات الخاتم والشعيرات يتبارك الارث .. بذات الارث تتبارك وحدة القوات المسلحة التي أحبت الشهيد قومياً لكل السودان – لا ينتمي لجماعة او حزب ، لا يعرف غير دينه ووطنه وجيشه . عاش وما انحنى كبريائه . لم تمنعه الجبال ولا الأدغال ولا الرمال ولا الحر ولا القر ..
لم يفتنه الأولاد والزوجة ، لم تفتنه الدنيا والجاه والرتب العليا .. حلق نسراً فوق ارض السودان ، وقضى فوق القمة بعيداً عن الأوحال
اخو زينب طبت حياً وميتاً وبكتك السماء والأرض ..
لو كان للفراسة ابنا لاثكلتها ..
لو كان للجيش أبا ليتمته .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق